الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
ما تقول السادة العلماء أئمة الدين ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ في الحـديث الذي ذكره البخاري مستشهدًا به في صحيحه، وهو قوله صلى الله عليه وسلم:(إن الله ـ عز وجـل ـ ينادي بصوت يسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قَرُبَ: أنا الملك أنا الديان)، وفي قوله ـ عليه السلام: (يقول الله ـ عز وجل: يا آدم، قم فابعث بَعْث النار)، (فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تبعث بعث النار) الحديث المشهور، فإن بعض الناس قال: لا يثبت لله صفة بحديث واحد. فما الجواب عن هذه المسألة من الكتاب والسنة، والآثار، والنظر، والأمثال، والنظائر؟ وابسطوا القول في ذلك، أفتونا مأجورين؟ فأجاب: الحمد لله رب العالمين. أصل هذا الباب ألا يتكلم الإنسان إلا بعلم؛ فإن هذا وإن كان مأمورًا به مطلقًا فهو في هذا الباب أوجب، قال الله تعالى: وكما أن الإنسان لا يجوز له أن يثبت شيئًا إلا بعلم، فلا يجوز له أن ينفي شيئًا إلا بعلم؛ ولهذا كان النافي عليه الدليل؛ كما أن المثبت عليه الدليل.ومما يجب أن يعرف أن: أدلة الحق لا تتناقض، فلا يجوز إذا أخبر الله بشىء ـ سواء كان الخبر إثباتًا أو نفيًا ـ أن يكون في إخباره ما يناقض ذلك الخبر الأول، ولا يكون فيما يعقل بدون الخبر ما يناقض ذلك الخبر المعقول، فالأدلة المقتضية للعلم لا يجوز أن تتناقض،سواء كان الدليلان سمعيين أو عقليين، أو كان أحدهما سمعيًا والآخر عقليًا، ولكن التناقض قد يكون فيما يظنه بعض الناس دليلاً وليس بدليل، كمن يسمع خبرًا فيظنه صحيحًا ولا يكون كذلك، أو يفهم منه ما لا يدل عليه، أو تقوم عنده شبهة يظنها دليلاً عقليًا، وتكون باطلة التبس عليه فيها الحق بالباطل، فيكذب بها ما أخبر الله به ورسوله، وهذا من أسباب ضلال من ضل من مكذبي الرسل، إما مطلقا كالذين كذبوا جميع الرسل، كقوم نوح وعاد وثمود ونحوهم، وإما من آمن ببعض وكفر ببعض كمن آمن من أهل الكتاب ببعض الرسل دون بعض، ومن آمن من الفلاسفة ببعض ما جاءت به الرسل دون بعض، ومن أهل البدع من أهل الملل المسلمين واليهود والنصارى من أتوا من هذا الوجه، فإنه قامت عندهم شبهات ظنوا أنها تنفي ما أخبرت به الرسل من أسماء الله تعالى وصفاته، وظنوا أن الواجب حينئذ تقديم ما رأوه على النصوص؛ لشبهات قـد بسط الكلام عليها في غير هذا الموضع، وبين ضلال من ضل من الجهمية المتفلسفة والمعتزلة ومن وافقهم من بعض ضلالهم. وجماع القول في إثبات الصفات: هو القول بما كان عليه سلف الأمة وأئمتها، وهو أن يوصف الله بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسوله، ويصان ذلك عن التحريف والتمثيل، والتكييف والتعطيل؛ فإن الله ليس كمثله شىء لا في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله، فمن نفى صفاته كان معطلاً، ومن مثل صفاته بصفات مخلوقاته كان ممثلاً، والواجب إثبات الصفات ونفي مماثلتها لصفات المخلوقات، إثباتًا بلا تشبيه وتنزيها بلا تعطيل، كما قال تعالى: وطريقة الرسل ـ صلوات الله عليهم ـ إثبات صفات الكمال لله على وجه التفصيل، وتنزيهه بالقول المطلق عن التمثيل، فطريقتهم إثبات مفصل ونفي مجمل، وأما الملاحدة من المتفلسفة، والقرامطة والجهمية، ونحوهم، فبالعكس؛ نفي مفصل، وإثبات مجمل. فالله تعالى أخبر في كتابه:إنه فبين بذلك أن الله لا مثل له ولا سمى ولا كفو، فلا يجوز أن يكون شىء من صفاته مماثلاً لشىء مـن صفات المخلوقات،ولا أن يكون المخلوق مكافئًا ولا مساميًا لـه في شىء من صفاته سبحانه وتعالى. وأما الملاحدة فقلبوا الأمر،وأخذوا يشبهونه بالمعدومات والممتنعات والمتناقضات، فغلاتهم يقولون:لا حي ولا ميت،ولا عالم ولا جاهل،ولا سميع ولا أصم،ولا متكلم ولا أخرس،بل قد يقولون:لا موجود ولا معدوم،ولا هو شىء ولا ليس بشىء.وآخرون يقولون: لا داخل العالم ولا خارجه، ولا مباين للعالم ولا حال فيه، وأمثال هذه العبارات التي ينفون بها الأمور المتقابلة التي لا يمكن انتفاؤها معًا، كما يقول محققو هؤلاء: إنه وجود مطلق. ثم منهم من يقول: هو وجود مطلق، إما بشرط الإطلاق ـ كما يقوله [ابن سينا] وأتباعه ـ مع أنهم قد قرروا في [المنطق] ما هو معلوم لكل العقلاء:إن المطلق بشرط الإطلاق لا يكون موجودًا في الأعيان، بل في الأذهان، وكان حقيقة قولهم: إن الموجود الواجب ليس موجودًا في الخارج، مع أنهم مقرون بما لم يتنازع فيه العقلاء من أن الوجود لابد فيه من موجود واجب الوجود بنفسه. ومنهم من يقول: هو مطلق لا بشرط ـ كما يقوله القونوي وأمثاله ـ فهؤلاء يجعلونه الوجود الذي يصدق على الواجب والممكن، والواحد والكثير، والذهني والخارجي، والقديم والمحدث، فيكون: إما صفة للمخلوقات، وإما جزءًا منها، وإما عينها. وأولئك يجعلونه الوجود المجرد الذي لا يتقيد بقيد، فلزمهم ألا يكون واجبًا ولا ممكنا، ولا عالما ولا جاهلا، ولا قادرًا ولا عاجزًا، وهم يقولون مع ذلك: إنه عاقل ومعقول وعاشق ومعشوق، فيتناقضون في ضلالهم، ويجعلون الواحد اثنين، والاثنين واحدًا، كما أنهم يريدون أن يثبتوا وجودًا مجردًا عن كل نعت، مطلقًا عن كل قيد، وهم ـ مع ذلك ـ يخصونه بما لا يكون لسائر الموجودات؛ ولهذا يقول بعضهم: إن العالم والعلم واحد، وإنه نفس العلم، فيجعلون العالم بنفسه هو العالم بغيره، والموصوف هو الصفة، ويتناقضون أشد من تناقض النصارى في تثليثهم واتحادهم اللذين أفسدوا بهما الإيمان بالتوحيد، والرسالة. وكلام ابن سبعين وابن رشد الحفيد، وابن التومرت، وابن عربي الطائي وأمثالهم من الجهمية ـ نفاة الصفات ـ يدور على هذا الأصل ـ كما قد بسط في موضعه ـ ويوجد ما يقارب هذا الاتحاد في كلام كثير من أهل الكلام والتصوف الذين دخل عليهم بعض شعب الاتحاد ولم يعلموا ما فيها من الفساد. والقول في مسألة كلام الله ـ تعالى ـ واضطراب الناس فيها، مبنى على هذا الأصل فإنها من مسائل الصفات، وفيها من التفريع ما امتازت به على سائر مسائل الصفات، وقد اضطرب الناس فيها اضطرابًا كثيرًا، قد بيناه في غير هذا الموضع، وبينا أن سلف الأمة وأئمتها كانوا على الإيمان الذي بعث الله به نبيه صلى الله عليه وسلم، يصفون الله بما وصف به نفسه، وبما وصفه به رسوله من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل. ويقولون: إن القرآن كلام الله ـ تعالى ـ ويصفون الله بما و صف به نفسه من التكليم والمناجاة والمناداة، وما جاءت به السنن والآثار موافقة لكتاب الله ـ تعالى. فلم يكن في الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وسائر أئمة المسلمين من قال: إن كلام الله مخلوق خلقه في غيره ولم يقم به كلام، كما قالته الجهمية من المعتزلة وغيرهم، بل لما أظهروا هذه البدعة اشتد نكير السلف، والأئمة لها، وعرفوا أن حقيقتها: أن الله لا يتكلم ولا يأمر ولا ينهى !! إذ كان الكلام وسائر الصفات إنما يعود حكمها إلى من قامت به. فلو خلق كلاما في الشجرة وكل كلام في الوجود كلامه ** سواء علينا نثره ونظامه وقد علم أن الله إذا خلق في بعض الأعيان علمًا، أو قدرة، أو حركة، أو إرادة، كان ذلك المحل هو العالم، القادر المتحرك المريد، فلو لم يكن كلامه إلا ما يخلقه في غيره لكان الغير هو المتكلم به، وهذا مبسوط في موضعه. وشبهة نفاة الكلام المشهورة:أنهم اعتقدوا أن الكلام صفة من الصفات لا تكون إلا بفعل من الأفعال القائمة بالمتكلم، فلو تكلم الرب لقامت به الصفات والأفعال وزعموا أن ذلك ممتنع. قالوا: لأنا إنما استدللنا على حدوث العالم بحدوث الأجسام، واستدللنا على حدوثها بما قام بها من الأعراض التي هي الصفات والأفعال، فلو قام بالرب الصفات والأفعال للزم أن يكون محدثًا، وبطل الدليل الذي استدللنا به على حدوث العالم، وإثبات الصانع. فقال لهم أهل السنة والإثبات: دليلكم هذا دليل مبتدع في الشرع لم يستدل به أحد من سلف الأمة وأئمتها، بل قد ذكر الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر أنه دليل محرم في دين الرسل، وأنه لا يجوز بناء دين المسلمين عليه، وذكر غيره: أنه باطل في العقل، كما هو محرم في الشرع، وأن ذم السلف والأئمة لأهل الكلام والجهمية، وأهل الخوض في الأعراض والأجسام أعظم ما قصدوا به ذم مثل هذا الدليل، كما قد بسط الكلام على ذلك في موضعه. ولما ظهرت مقالة الجهمية جاء بعد ذلك أبو محمد عبد الله بن سعيد بن كلاب يوافق السلف والأئمة على إثبات صفات الله تعالى، وعلوه على خلقه وبين أن العلو على خلقه يعلم بالعقل،واستواؤه على العرش يعلم بالسمع، وكذلك جاء بعده الحارث المحاسبي وأبو العباس القلانسي وغيرهما من المتكلمين المنتسبين إلى السنة والحديث. ثم جاء أبو الحسن الأشعري فاتبع طريقة ابن كلاب وأمثاله، وذكر في كتبه جمل مقالة أهل السنة والحديث، وأن ابن كلاب يوافقهم في أكثرها، وهؤلاء يسمون الصفاتية؛ لأنهم يثبتون صفات الله تعالى خلافًا للمعتزلة، لكن ابن كلاب وأتباعه لم يثبتوا لله أفعالاً تقوم به تتعلق بمشيئته وقدرته، بل ولا غير الأفعال مما يتعلق بمشيئته وقدرته. فكانت المعتزلة تقول:لا تحله الأعراض والحوادث. وهم لا يريدون بالأعراض الأمراض والآفات فقط، بل يريدون بذلك الصفات، ولا يريدون بالحوادث المخلوقات، ولا الأحداث المحيلة للمحل، ونحو ذلك ـ مما يريده الناس بلفظ الحوادث ـ بل يريدون نفي ما يتعلق بمشيئته وقدرته من الأفعال وغيرها، فلا يجوزون أن يقوم به خلق، ولا استواء، ولا إتيان ولا مجىء، ولا تكليم، ولا مناداة، ولا مناجاة ولا غير ذلك مما وصف بأنه مريد له قادر عليه. وابن كلاب خالفهم في قولهم: لا تقوم به الأعراض، وقال: تقوم به الصفات، ولكن لا تسمى أعراضًا، ووافقهم على ما أرادوه بقولهم: لا تقوم به الحوادث من أنه لا يقوم به أمر من الأمور المتعلقة بمشيئته. فصار من حين فرق هذا التفريق المنتسبون إلى السنة والجماعة، القائلون بأن القرآن غير مخلوق، وأن الله يرى في الآخرة، وأن الله فوق سمواته على عرشه، بائن من خلقه على قولين ذكرهما الحارث المحاسبي وغيره. طائفة وافقت ابن كلاب كالقلانسي، والأشعري،وأبي الحسن بن مهدي الطبري، ومن اتبعهم، فإنه وافق هؤلاء كثير من أتباع الأئمة الأربعة وغيرهم: من أصحاب مالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وأبى حنيفة وغيرهم. وكان الحارث المحاسبي يوافقه ثم قيل:إنه رجع عن موافقته، فإن أحمد بن حنبل أمر بهجر الحارث المحاسبي وغيره من أصحاب ابن كلاب لما أظهروا ذلك،كما أمر السري السقطي الجنيد ـ أن يتقي بعض كلام الحارث، فذكروا أن الحارث ـ رحمه الله ـ تاب من ذلك، وكان له من العلم والفضل والزهد،والكلام في الحقائق ما هو مشهور،وحكى عنه أبو بكر الكلاباذي صاحب مقالات الصوفية:أنه كان يقول: إن الله يتكلم بصوت،وهذا يوافق قول من يقول: إنه رجع عن قول ابن كلاب. قال أبو بكر الكلاباذي: وقالت طائفة من الصوفية: كلام الله حرف وصوت وأنه لا يعرف كلام إلا كذلك،مع إقرارهم أنه صفة لله في ذاته، وأنه غير مخلوق، قال: وهذا قول الحارث المحاسبي ومن المتأخرين ابن سالم. وبقى هذا الأصل يدور بين الناس حتى وقع بين أبي بكر بن خزيمة الملقب بإمام الأئمة، وبعض أصحابه بسبب ذلك، فإنه بلغه أنهم وافقوا ابن كلاب فنهاهم وعابهم، وطعن على مذهب ابن كلاب بما كان مشهورًا عند أئمة الحديث والسنة. ومن ذلك الزمان تنازع المنتسبون إلى السنة: من أن الله يتكلم بصوت، أو لا يتكلم بصوت؟ فإن أتباع ابن كُلاب نفوا ذلك، قالوا: لأن المتكلم بصوت يستلزم قيام فعل بالمتكلم متعلق بإرادته، والله ـ عندهم ـ لا يجوز أن يقوم به أمر يتعلق بمشيئته وقدرته: لا فعل ولا غير فعل، فقالوا: إن الله لا يتكلم بصوت، وإنما كلامه معنى و احد هو الأمر والنهي، والخبر إن عبر عنه بالعربية كان قرآنًا، وإن عبر عنه بالعبرية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلا. فقال جمهور العقلاء ـ من أهل السنة وغير أهل السنة ـ: هذا القول معلوم الفساد بضرورة العقل، كما هو مخالف للكتاب والسنة، فإنا نعلم أن التوراة إذا عربت لم تكن هي القرآن بل معانيها ليست هي معاني القرآن، ونعلم أن القرآن إذا ترجم بالعبرية لم يصر هو التوراة المنزلة على موسى، ونعلم أن معنى آية الدين ليس هو معنى آية الكرسي، ولا معنى قالوا: ومن جعل الأمر والنهي صفات للكلام، لا أنواع له، فقوله معلوم الفساد بالضرورة، وهذا من جنس قول القائلين بوحدة الوجود، فإن من جعل الوجود واحدًا بالعين وهو الواجب، والممكن، كان كلامه معلوم الفساد بالضرورة، كمن جعل معاني الكلام معنى واحدًا: هي الأمر، والنهي والخبر، لكن الكلام ينقسم إلى الإنشاء والخبر، والإنشاء ينقسم إلى طلب الفعل، وطلب الترك، والخبر ينقسم إلى خبر عن النفي، وخبر عن الإثبات، كما أن الموجود ينقسم إلى واجب وممكن، والممكن ينقسم إلى حي قائم بنفسه وقائم بغيره، والقائم بغيره ينقسم إلى ما تشترط له الحياة وما لا تشترط له الحياة، فلفظ الواحد ينقسم إلى واحد بالنوع، وواحد بالعين. فقول القائل: الكلام معنى واحد، كقوله: الوجود واحد، فإن أراد به أنه نوع واحد، أو جنس واحد، أو صنف واحد، ونحو ذلك، لم يكن ذلك مثل أن يريد أنه عين واحدة، وذات واحدة، وشخص واحد، فإن هذا مكابرة للحس، والعقل والشرع، وأما الأول فمراده أن بين ذلك قدرًا مشتركًا، كما أن الموجودات تشترك في مسمى الوجود، وأنواع الكلام تشترك في مسمى الكلام، وقد بسط هذا كله في غير هذا الموضع. ثم إن طائفة أخرى لما عرفت فساد قول ابن كلاب في مسألة الكلام، ووافقته على أصله في أن الله لا يقوم به ما يتعلق بمشيئته وقدرته، وكان من قولها: إن القرآن كلام الله غير مخلوق، ولم يكن عندها إلا قديم لا يتعلق بمشيئة الله وقدرته، أو مخلوق منفصل عنه، لزمها أن تقول: إن الله يتكلم بصوت أو أصوات قديمة أزلية لا تتعلق بمشيئته وقدرته، وأنه لم يزل ولا يزال متصفًا بتلك الأصوات القديمة الأزلية اللازمة لذاته. وهذا القول يذكر عن أبى الحسن بن سالم، شيخ أبي طالب المكي ـ إن صح عنه ـ لكنه قول كثير من أصحاب ابن سالم، ومن وافقهم من أصحاب مالك والشافعي وأحمد وغيرهم. وقالت الكرامية، وطائفـة كثيرة مـن المرجئة والشيعة وغيرهم: إن الله يتكلم بأصوات تقوم به تتعلق بمشيئته وقدرته، وأنه تقوم به الحوادث المتعلقة بمشيئته وقدرته، لكن ذلك حادث بعد أن لم يكن، وأن الله في الأزل لم يكن متكلمًا إلا بمعنى القدرة على الكلام،وأنه يصير موصوفًا بما يحدث بقدرته وبمشيئته بعد أن لم يكن كذلك، وهؤلاء رأوا أنهم يوافقون الجماعة في أن لله أفعالاً تقوم به تتعلق بمشيئته وقدرته، ويقوم به غير ذلك من الإرادات والكلام الذي يتعلق بمشيئته وقدرته. لكن قالوا:لا يجوز أن تتعاقب عليه الحوادث،فإن ما تعاقبت عليه الحوادث فهو محدث، ووافقوا المعتزلة في الاستدلال بذلك على حدوث العالم.فكما أن ابن كلاب فرق بين الأعراض والحوادث،فرق هؤلاء في الحوادث بين تجددها،وبين لزومها،فقالوا بنفي لزومها له دون نفي حدوثها،كما قالوا في المخلوقات المنفصلة:إنها تحدث بعد أن لم تكن بمشيئته وقدرته. والفلاسفة الدهرية يطالبون هؤلاء كلهم بسبب حدوث الحوادث بعد أن لم تكن، وإن ذلك يستلزم الترجيح بلا مرجح، و الحوادث بلا سبب حادث، قالوا: وهو ممتنع في صريح العقل، وهذا أعظم شبههم في قدم العالم وهي المعضلة الزَّبَاء [أي: العظيمة. انظر: لسان العرب، مادة: زبى]، والداهية الدهياء وقد ضاق هؤلاء عن جوابهم، حتى خرجوا إلى الالتزام، وقد بسطنا الكلام على ذلك في غير هذا الموضع. وبينا الأجوبة القاطعة عن كلام الفلاسفة على طريقة السلف والأئمة، وأنه من قال بموجب نصوص القرآن والسنة أمكنه أن يناظر الفلاسفة مناظرة عقلية يقطعهم بها، ويتبين له أن العقل الصريح مطابق للسمع الصحيح. وبينا ـ أيضًا ـ كيف تجيبهم كل طائفة من طوائف أهل القبلة؛ لأنهم أقرب إلى الحق من الفلاسفة، فيمكنهم أن يجيبوهم بالإلزام جوابًا لا محيص للفلاسفة عنه، ويمكنهم أن يقولوا للفلاسفة: قولكم أظهر فسادًا في الشرع والعقل من قول كل طائفة من طوائف المسلمين،فتقول لهم كل طائفة من طوائف المسلمين: إذا لم يمكنا أن نجيبكم بجواب قاطع يحل شبهتكم غير الجواب الإلزامي إلا بموافقتكم فيما يخالف الشرع والعقل، أو موافقة إخواننا المسلمين فيما لا يخالف الشرع، ويمكن أيضًا ألا يخالف العقل ـ كان هذا أولى فإن الفلاسفة طمعت في طوائف أهل القبلة بما ابتدعه كل فريق،فأخذت بدعة أصحابها واحتجت بها عليهم،فأمكن صاحب ذلك القول المبتدع أن يقول:رجوعي عن هذا القول المبتدع مع موافقتي لما دل عليه الكتاب والسنة، وأقوال سلف الأمة، أحب إلى من أن أوافق الفلاسفة على قول أعلم أنه كفر في الشرع، مع أن العقل أيضًا يبين فساده. وأما السلف والأئمة، فلم ينقل عن أحد منهم أنه قال بقول من قال: إن القرآن مخلوق، ولا بقول من قال: إنه معنى واحد قائم بالذات هو الأمر، والنهي والخبر، وهو مدلول التوراة، والإنجيل، والقرآن، وغير ذلك من العبارات، ولا بقول من قال: إنه أصوات قديمة أزلية لا تتعلق بمشيئته وقدرته، ولا بقول من قال: إن الله كان لا يتكلم حتى أحدث لنفسه كلامًا صار به متكلمًا. وأما القول بأن أصوات العباد بالقرآن أو ألفاظهم قديمة أزلية، فهذا ـ أيضًا ـ من البدع المحدثة، التي هي أظهر فسادًا من غيرها، والسلف والأئمة من أبعد الناس عن هذا القول. والعقل الصريح يعلم أن من جعل أصوات العباد قديمة أزلية، كان قوله معلوم الفساد بالضرورة. ولكن أصل هذا تنازعهم في مسألة اللفظ.والمنصوص عن الإمام أحمد ونحوه من العلماء أن من قال: إن اللفظ بالقرآن والتلاوة مخلوقة، فهو جهمي، ومن قال: إنه غير مخلوق، فهو مبتدع؛ لأن اللفظ والتلاوة يراد به الملفوظ المتلو، وذلك هو كلام الله. فمن جعل كلام الله ـ الذي أنزله على نبيه ـ مخلوقًا فهو جهمي. ويراد بذلك المصدر وصفات العباد، فمن جعل أفعال العباد وأصواتهم غير مخلوقة. فهو مبتدع ضال. وهكذا ذكره الأشعري في كتاب المقالات عن أهل السنة والحديث قال: ويقولون: إن القرآن كلام غير مخلوق، والكلام في الوقف، واللفظ بدعة.من قال باللفظ أو الوقف فهو مبتدع.وعندهم لا يقال: اللفظ بالقرآن مخلوق، ولا يقال: غير مخلوق. وليس في الأئمة والسلف من قال: إن الله لا يتكلم بصوت، بل قد ثبت عن غير واحد من السلف والأئمة أن الله يتكلم بصوت، وجاء ذلك في آثار مشهورة عن السلف والأئمة، وكان السلف والأئمة يذكرون الآثار التي فيها ذكر تكلم الله بالصوت، ولا ينكرها منهم أحد، حتى قال عبد الله بن أحمد: قلت لأبي: إن قومًا يقولون: إن الله لا يتكلم بصوت، فقال: يا بني هؤلاء جهمية، إنما يدورون على التعطيل. ثم ذكر بعض الآثار المروية في ذلك. وكلام البخاري في [كتاب خلق الأفعال] صريح في أن الله يتكلم بصوت، وفرق بين صوت الله وأصوات العباد، وذكر في ذلك عدة أحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم وكذلك ترجم في كتاب [الصحيح] باب في قوله تعالى: وكما أنه المعروف عند أهل السنة والحديث، فهو قول جماهير فرق الأمة، فإن جماهير الطوائف يقولون: إن الله يتكلم بصوت مع نزاعهم في أن كلامه هل هو مخلوق، أو قائم بنفسه؟ قديم أو حادث؟ أو ما زال يتكلم إذا شاء؟ فإن هذا قول المعتزلة، والكرامية، والشيعة وأكثر المرجئة، والسالمية، وغير هؤلاء من الحنفية والمالكية، والشافعية، والحنبلية،والصوفية. وليس من طوائف المسلمين من أنكر أن الله يتكلم بصوت إلا ابن كلاب ومن اتبعه كما أنه ليس في طوائف المسلمين من قال: إن الكلام معنى واحد قائم بالمتكلم إلا هو ومن اتبعه، وليس في طوائف المسلمين من قال: إن أصوات العباد بالقرآن قديمة أزلية، ولا أنه يسمع من العباد صوتًا قديمًا، ولا أن القرآن نسمعه نحن من الله، إلا طائفة قليلة من المنتسبين إلى أهل الحديث من أصحاب الشافعي وأحمد وداود وغيرهم، وليس في المسلمين من يقول: إن الحرف الذي هو مداد المصاحف قديم أزلي، فإثبات الحرف والصوت بمعنى أن المداد وأصوات العباد قديمة بدعة باطلة لم يذهب إليها أحد من الأئمة، وإنكار تكلم الله بالصوت، وجعل كلامه معنى واحدًا قائمًا بالنفس بدعة باطلة لم يذهب إليها أحد من السلف والأئمة. والذي اتفق عليه السلف والأئمة:أن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود، وإنما قال السلف: [منه بدأ]؛ لأن الجهمية ـ من المعتزلة وغيرهم ـ كانوا يقولون: إنه خلق الكلام في المحل، فقال السلف: منه بدأ أي: هو المتكلم به فمنه بدأ، لا من بعض المخلوقات، كما قال تعالى:
إذا تبين هذا، فقول القائل: لا يثبت لله صفة بحديث واحد عنه أجوبة: أحدها: أن يقال: لا يجوز النفي إلا بدليل، كما لا يجوز الإثبات إلا بدليل. فإذا كان هذا القائل ممن لا يتكلم في هذا الباب إلا بأدلة شرعية، ويرد الأقوال المبتدعة. قيل له: قول القائل: إن الله لا يتكلم بصوت ونحو ذلك، كلام لم يقله أحد من سلف الأمة وأئمتها، وليس فيه حديث لا صحيح ولا ضعيف، وأما الإثبات ففيه عدة أحاديث في الصحاح والسنن والمساند، وآثار كثيرة عن السلف والأئمة، فأي القولين حينئذ هو الذي جاءت به السنة؟ قول المثبت أو النافي؟ وإن كان ممن يتكلم بالأدلة العقلية في هذا الباب تكلم معه في ذلك، وبين له أنها تدل على الإثبات لا على النفي، وأن قول النفاة معلوم الفساد بدلائل العقل كما اتفق على ذلك جمهور العقلاء. الوجه الثاني: أن يقال: هذه الصفة دل عليها القرآن؛ فإن الله أخبر بمناداته لعباده في غير آية، كقوله تعالى: وهذا كما أنه إذا أخبر أن له علمًا وقدرة، دل على أن له صفة؛ لأن العلم والقدرة نوع من الصفات، و إذا كان لفظ القرآن لم يذكر فيه أن العلم صفة ولا القدرة صفة. وكذلك إذا أخبر في القرآن أنه يخلق ويرزق ويحيى ويميت دل على أنه فاعل، فإن هذه أنواع تحت جنس الفعل،وإن كان ثبوت هذه الصفة بما قد دل عليه القرآن ـ في غير موضع ـ كان ما جاء من الأحاديث موافقًا لدلالة القرآن، ولم تكن هذه الصفة ثابتة بمجرد هذا الخبر. الوجه الثالث: إن ما أخبر الله به في كتابه من تكليم موسى وسمع موسى لكلام الله، يدل على أنه كلمه بصوت، فإنه لا يسمع إلا الصوت، وذلك أن الله قال في كتابه عن موسى: ففرق بين إيحائه إلى سائر النبيين وبين تكليمه لموسى، كما فرق أيضًا بين النوعين في قوله: الوجه الرابع: أن مفسري القرآن، وأهل السنن والآثار، وأتباعهم من السلف، كلهم متفقون على أن الله كلم موسى بصوت، كما في الآثار المعروفة عنهم في الكتب المأثورة عن السلف، مثل ما ذكره ابن جرير وأمثاله في تفسير قوله: الوجه الخامس: أن يقال: الأدلة الدالة على أن الله يتكلم ـ من الشرع والعقل ـ دلت على أنه يتكلم بالصوت، فإن الناس لهم في مسمى الكلام أربعة أقوال: قيل: إنه اسم للفظ الدال على المعنى، وقيل: للمعنى المدلول عليه باللفظ وقيل: اسم لكل منهما بطريق الاشتراك. وقيل: اسم لهما بطريق العموم، وهذا مذهب السلف والفقهاء والجمهور، فإذا قيل: تكلم فلان: كان المفهوم منه عند الإطلاق اللفظ والمعنى جميعًا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:(إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت بها أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل به)، وقال:(كلمتان خفيفتان على اللسان، ثقيلتان في الميزان،حبيبتان إلى الرحمن: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم)، وقال:(أصدق كلمة قالها شاعر: كلمة لبيد: ألا كل شىء ما خلا الله باطل). ونظائر هذا كثيرة. فالكلام إذا أطلق يتناول اللفظ والمعنى جميعًا، وإذا سمى المعنى وحده كلامًا، أو اللفظ وحده كلامًا، فإنما ذاك مع قيد يدل على ذلك، كما قد بسط في غير هذا الموضع، وأن الكلام عند الإطلاق هو اللفظ والمعنى جميعًا، والقرآن والحديث مملوء من آيات الكلام لله تعالى، فكان المفهوم من ذلك هو إثبات اللفظ والمعنى لله. الوجه السادس: أن القرآن كلام الله باتفاق المسلمين، فإذا كان كلامه هو المعنى فقط، والنظم العربي الذي يدل على المعاني ليس كلام الله كان مخلوقًا خلقه الله في غيره، فيكون كلامًا لذلك الغير؛لأن الكلام إذا خلق في محل كان كلامًا لذلك الغير كما تقدم، فيكون الكلام العربي ليس كلام الله،بل كلام غيره،ومن المعلوم بالاضطرار من دين المسلمين أن الكلام العربي الذي بلغه محمد صلى الله عليه وسلم عن الله أعلم أمته أنه كلام الله لا كلام غيره،فإن كان النظم العربي مخلوقًا لم يكن كلام الله فيكون ما تلقته الأمة عن نبيها باطلاً. وهذا من أعظم حجج السنية على الجهمية من أن القرآن غير مخلوق، فإنهم قالوا: لو خلقه في غيره لكان صفة لذلك الغير، كسائر الصفات المخلوقة إذا خلقها الله في محل كانت صفة لذلك المحل، وهذا بعينه يدل على أن القرآن العربي كلام الله لا كلام غيره، إذ لو كان مخلوقًا في محل لكان الكلام العربي كلامًا لذلك المحل الذي خلق فيه، وقد علم بالاضطرار من دين الإسلام أن الكلام العربي كلام الله لا كلام غيره. وهذا يبطل قول من قال من المتأخرين: إن الكـلام يقال بالاشتراك على اللفظ والمعنى، فإنه يقال لهم: إذا كان كل منهما يسمى كلامًا حقيقة، امتنع أن يكون واحد منهما مخلوقًا، إذ لو كان مخلوقًا لكان كلامًا للمحل الذي خلق فيه. ولهذا لم يكن قدماء الكلابية يقولون: إن لفظ الكلام مشترك بين اللفظ والمعنى؛ لأن ذلك يبطل حجتهم على المعتزلة، ويوجب عليهم القول بأن كلام الله مخلوق، لكن كانوا يقولون: إن إطلاق الكلام على اللفظ بطريق المجاز، وعلى المعنى بطريق الحقيقة، فعلم متأخروهم أن هذا فاسد بالضرورة وأن اسم الكلام يتناول اللفظ حقيقة فجعلوه مشتركًا، فلزمهم أن يكون كلام الله مخلوقًا، فهم بين محذورين: إما القول بأن كلام الله مخلوق، وإما القول بأن القرآن العربى ليس كلام الله، وكلا الأمرين معلوم الفساد، وليس الكلام في نفس أصوات العباد وحركاتـهم، بل الكـلام في نفس الـقرآن العربى المـنزل على محمد صلى الله عليه وسلم. ويظهر ذلك بأن نقدر الكلام في القرآن قبل أن ينزل إليه ويبلغه إلى الخلق. فإن قيل: إنه كله كلام الله تكلم به وبلغه عنه جبريل إلى محمد ـ كما هو المعلوم من دين المرسلين ـ كان هذا صريحًا بأنه لا فرق بين الحروف والمعاني وأن هذا من كلام الله، كما أن هذا من كلام الله، وإن قيل: إنه خلق في غيره حروفًا منظمة دلت على معنى قائم بذاته، فقد صرح بأن تلك الحروف المؤلفة ليست كلامه، وأنه لم يتكلم بها بحال. وإذا قيل: إن تلك تسمى كلامًا حقيقة وقد خلقت في غيره، لزم أن تكون كلامًا لذلك الغير فلا يكون كلام الله، وهو خلاف المعلوم من دين الإسلام، وإن قيل: لا يسمى كلامًا حقيقة كان خلاف المعلوم من اللغة والشريعة ضرورة. ونحن لا نمنع أن المعنى وحده قد يسمى كلامًا، كما قد يسمى اللفظ وحده كلامًا، لكن الكلام في القرآن الذي هو لفظ، ومعنى هل جميعه كلام الله؟ أم لفظه كلام الله، دون معناه؟ أم معناه كلام الله دون لفظه؟ ومن المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أن الجميع كلام الله، وقد قال تعالى: وهذا يبين أن محمدًا بلغ القرآن لفظه ومعناه، لم ينزل عليه معان مجردة، إذ لو كان كذلك لأمكن أن يقـال: تلقى مـن هـذا الأعجمي معـان صاغها بلسانه، فلما ذكر قولـه: الوجه السابع: أن كلام الله وسائر الكلام، يسمع من المتكلم، كما سمع موسى كلام الله من الله، وسمع الصحابة كلام النبي صلى الله عليه وسلم منه، وتارة يسمع من المبلغ عنه، كما سمع المسلمون القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم، والمبلغين عنه، ومنه قوله تعالى: ثم من المعلوم أن المبلغ عن النبي صلى الله عليه وسلم وأمثاله من الناطقين تكلم به بحروفه ومعانيه، مع إمكان الرواية عنه بالمعنى، وإمكان قيام ألفاظ مكان ألفاظ، كما حكى الله في القرآن أقوال أمم تكلمت بغير الكلام العربي،ولو قدر أن المبلغ عنه لم يتكلم إلا بمعنى الكلام وعبر عنه لكان كالأخرس الذي تقوم بذاته المعاني من غير تعبير عنها ـ حتى يعبر عنها غيره بعبارة لذلك الغير،ومن المعلوم أن الكلام صفة كمال تنافى الخرس،فإذا كان من قال:إن الله لا يقوم به كلام،فقد شبهه بالجامدات ووصفه بالنقص وسلبه الكمال،فمن قال أيضًا:إنه لا يعبر عما في نفسه من المعاني إلا بعبارة تقوم بغيره،فقد شبهه بالأخرس الذي لا يعبر عن نفسه إلا بعبارة تقوم بغيره،وهذا قول يسلبه صفة الكمال ويجعل غيره من مخلوقاته أكمل منه. وقد قرر في غير هذا الموضع أن كل كمال يثبت لمخلوق فالخالق أولى به، وكل نقص تنزه عنه مخلوق، فالخالق أولى بالتنزه عنه، وكان هذا من الأدلة الدالة على إثبات صفات الكمال لـه كالحياة والعلم والقدرة، فإن هذه صفات كمال تثبت لخلقه فهو أولى وأحق باتصافه بصفات الكمال، ولو لم يتصف بصفات الكمال لكانت مخلوقاته أكمل منه، وهذا بعينه قد احتجوا به في مسألة الكلام، وهو مطرد في تكلمه بعبارة القرآن ومعناه جميعًا. وقد استدلوا ـ أيضًا ـ بأنه لو لم يتصف بصفات الكمال لاتصف بنقائضها، وهي صفات نقص، والله منزه عن ذلك، فلو لم يوصف بالحياة لوصف بالموت، ولو لم يوصف بالعلم لوصف بالجهل، ولو لم يوصف بالكلام لوصف بالخرس، ولو لم يوصف بالبصر والسمع لوصف بالعمى والصمم. وللملاحدة هنا سؤال مشهور وهو: أن هذه المتقابلات ليست متقابلة تقبل السلب والإيجاب، حتى يلزم من نفى أحدهما ثبوت الآخر، بل هي متقابلة تقابل العدم، والملكة، وهو سلب الشىء عما شأنه أن يكون قابلاً له، كعدم العمى عن الحيوان القابل له، فأما الجماد فإنه لا يوصف عندهم بالعمى ولا البصر لعدم قبوله لواحد من هذين، وقد أعيا هذا السؤال كثيرًا من المتأخرين ـ حتى أبى الحسن الآمدي وأمثاله من أهل الكلام ـ وظنوا أنه لا جواب عنه، وقد بسط الكلام في أجوبته في غير هذا الموضع. وذكر من جملة الأجوبة عن هذا أن يقال: هذا أبلغ في النقص، فإن ما كان قابلاً للاتصاف بالبصر والعمى، والعلم والجهل، والكلام والخرس، فهو أكمل مما لا يقبل واحدًا منهما؛ إذ الحيوان أكمل من الجماد، فإذا كان الاتصاف بصفات النقص عيبًا مع إمكان الاتصاف بصفات الكمال، فعدم إمكان الاتصاف بصفات الكمال وعدم قبول ذلك أعظم آفة وعيبًا ونقصًا فسبحان الله وتعالى عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا. الوجه الثامن: أن يقال: كلام الله إما أن يكون مخلوقًا، منفصلا عنه، ولم يقم بذاته كلام ـ كما يقوله الجهمية: من المعتزلة وغيرهم ـ وإما أن يكون كلامه قائمًا به، والأول باطل باتفاق سلف الأمة وأئمتها، وسائر أهل السنة والجماعة، وأدلة بطلانه من الشرع والعقل كثيرة، كما قد بسط في موضعه. وإن كان كلامه قائمًا به، فلا يخلو إما أن يقال: لم يقم به إلا المعنى، كما يقوله ابن كلاب وأتباعه، وإما أن يقوم به المعنى والحروف، والأول باطل. أما أولا: فلأن المعنى الواحد يمتنع أن يكون هو الأمر، والنهي، والخبر، وأن يكون هو مدلول التوراة، والإنجيل، والقرآن. وأما ثانيا: فلأن المعنى المجرد لا يسمع، وقد ثبت بالنص والإجماع أن كلام الله مسموع منه كما سمعه موسى بن عمران؛ ولهذا كان محققوا من يقول بأن الكلام هو مجرد المعنى يقول: إنه لا يسمع، ولكن طائفة منهم زعمت أنه يسمع بناء على قولهم: إن السمع يتعلق بكل موجود، والرؤية بكل موجود، والشم والذوق واللمس بكل موجود، وجمهور العقلاء يقولون: إن فساد هذا معلوم بالضرورة من العقل، وهذا من أعظم ما أنكره الجمهور على أبي الحسن الأشعري ومن وافقه من أصحاب أحمد وغيرهم. وأما ثالثًا: فلو لم يكن الكلام إلا معنى لم يكن فرق بين تكليم الله لموسى وإيحائه إلى غيره، لا بين التكليم من وراء حجاب، والتكليم إيحاء، فإن إيصال معرفة المعنى المجرد إلى القلوب يشترك فيه جميع الأنبياء. ولهذا قال من بنى على هذا الأصل الفاسد: إن الواحد من أهل الرياضة قد يسمع كلام الله كما سمعه موسى بن عمران كما ذكر ذلك في [الإحياء] ونحوه، وصار الواحد من هؤلاء يظن أن ما يحصل له من الإلهامات هي مثل تكليم الله لموسى بن عمران. ودخلت الفلاسفة من هذا الباب، فزعموا أن تكليم الله لموسى إنما هو فيض فاض على نفسه من العقل الفعال، وأن كلام الله ليس إلا ما يحصل في النفوس من المخاطبات، كما أن الملائكة ما يحصل في القلوب من الصور الخيالية، ومثل هذا قد يحصل في اليقظة والمنام، فجعلوا تكليم الله لموسى بن عمران من جنس من يرى ربه في المنام وهو يكلمه، ونحو ذلك، وهو لازم لقول من جعل كلام الله معنى مجردًا، وإذا كان اللزوم معلوم الفساد بالاضطرار من دين الإسلام علم فساد اللازم. وأما رابعًا:فلو لم يكن الكلام إلا مجرد المعاني لكان المخلوق أكمل من الخالق،فإنا كما نعلم أن الحي أكمل من الميت،وأن العالم أكمل من الجاهل والقادر أكمل من العاجز، والناطق أكمل من الأخرس،فنحن نعلم أن الناطق بالمعاني والحروف أكمل ممن لا يكون ناطقًا إلا بالمعاني دون الحروف،وإذا كان الرب يمتنع أن يوصف بصفات النقص،ويجب اتصافه بصفات الكمال، ويمتنع أن يكون للمخلوق من صفات الكمال ما لا يكون للخالق، امتنع أن يكون موصوفًا بالكلام الناقص وأن يكون المخلوق أكمل منه في اتصافه بالكلام التام؛ ولهذا كان موسى بن عمران مفضلاً على غيره بتكليم الله إياه، كلمه كلامًا سمعه موسى من الله، فكان تكليمه له بصوته أفضل ممن أوحى إلى قلبه معاني مجردة لم يسمعها بأذنه. وأما خامسا: فلو لم يكن الكلام إلا معنى مجردًا لكان نصف القرآن كلام الله ونصفه ليس كلام الله، فالمعنى كلام الله والألفاظ ليست كلام الله، وهذا خلاف المعلوم من دين المسلمين؛ ولهذا يفرقون بين القرآن الذي هو كلام الله وبين ما أوحاه إلى نبيه من المعاني المجردة، ويعلمون أن جبريل نزل عليه بالقرآن كله، ليس لجبريل ولا لمحمد منه إلا التبليغ والأداء، فهذا رسوله من الملائكة، وهذا رسوله من البشر. ولهذا أضافه الله إلى هذا تارة، وإلى هذا تارة بلفظ الرسول، كما قال: وقد ظن بعض الغالطين أن إضافته إلى الرسول تقتضي أنه أنشأ حروفه وهذا خطأ؛ لأنه لو كان جبريل أو محمد هو الذي أنشأ لفظه ونظمه امتنع أن يكون الآخر الذي أنشأ ذلك، فلما أضافه إلى هذا تارة، وإلى هذا تارة، علم أنه أضافه إليه لأنه بلغه وأداه لا لأنه أنشأه وابتداه، لا لفظه ولا معناه؛ ولهذا قال: وأيضًا، فإن قوله: وكذلك لفظ التكبير في الصلاة،إذا عدل عنه إلى لفظ التسبيح ونحوه،وقيل:إن الصلاة تنعقد بذلك ـ كما يقوله أبو حنيفة ـ لم يقل:إن ذلك لفظ تكبير،فكذلك إذ قدر أنا ترجمنا القرآن ترجمة جائزة لم يقل: إن الترجمة قرآن، ولم نسمها قرآنًا، فلو كان القرآن إنما كان كلام الله لأجل المعنى فقط ولفظه ونظمه ليس كلام الله، بل سمى بذلك لدلالته على كلام الله، كان ما شارك هذا اللفظ والنظم من الدلالة مشاركًا له في الاسم والحكم، فكان يجب تسميته، قرآنا وإثبات أحكام القرآن له، والكلام على هذا مبسوط في موضع آخر. الوجه التاسع:أن هذا القرآن الذي يقرأه المسلمون هو كلام الله الذي أنزله على نبيه، كما ثبت ذلك بالنص وإجماع المسلمين، وقد كفر الله من قال: إنه قول البشر، ووعده أنه سيصليه سقر، في قوله: فمن جعل لفظه ونظمه من إحداث محمد، فقد جعل نصفه قول البشر، ومن جعله من إحداث جبريل، فقد جعل نصفه قول الملائكة، ومن جعله مخلوقًا في الهواء أو غيره جعله كلامًا لذلك الهواء. وكفر من قال: إنه قول الملك، أو قول الهواء، أو الشجر، بل كفر من قال: إنه قول البشر، فدل ذلك على أنه ليس شىء من القرآن ـ لا لفظه، ولا معناه ـ من قول أحد من المخلوقين ولا من كلامه، بل هو كلام الله تعالى، وأيضًا ـ فالإشارة في قوله: الوجه العاشر:وهو أن الله أخبر أن القرآن منزل من الله، كما قال: فإذا أخبر أن
|